الجمعة، 24 أغسطس 2018

من طرابلس إلى الأندلس | الجزء الثالث - أشبيلية، قرطبة و مدريد


هذه التدوينة هي الجزء الثالت ، لقراءة الجزء الأول أضغط  هنا 
                     ....  لقراءة الجزء الثاني أضغط هنا
_________________________________________________


 أنطلقت من غرناطة الى اشبيلية في رحلة أظن أنها أربع ساعات أو مانحوه و كنت في اشبيلية قد حجزت مسبقاً في أحد الأقامات هناك في وسط المدينة حيث أغلب الأماكن الأثرية المخصصة للسياح، و في اشبيلية ايضا كان لدي يومٌ واحد ففي منتصف ثاني يوم يجب أن أكون في قرطبة، لذا ما ان وصلت حتى أنطلقت ماشيا في أزقة اشبيلية و بالطبع كان للجوجل
مئذنة المسجد الجامع, وعليه تقوم اليوم كاتدرائية "جيرالدا بسيفييا‏"
ماب الدور الكبير في معرفة كل الأزقة و الشوارع، بحث عن الكثير من الأمكنة الأثرية العريقة و تجولت مليا في أزقتها الرائعة جدا و بالفعل اشبيلية هي عاصمة الأندلس نظراً لكبر حجمها و إزدحام شوارعها و الزخم الكبير للمباني هناك، أمضيت تلك الليلة أتمشى في الحي اليهودي الكبير بوسط المدينة، و بالطبع كانت رحلة البحث عن مطعم حلال و جيد تتكرر في كل مدينة و لكني أخيرا عثرت على مطعم تركي رائع جدا، أستمتعت على أثره بالجلوس برفقة شباب يعزفون القيثار و يغنون طلبا للرزق، و قد كانت ليلة هادئة جميلة و كنت بين الفينة و الأخرى اسمع كلمة عربية من سياح عرب راق لهم ايضا السياحة في الأندلس.

أهم ما يميز اشبيلية سياحيا هو قصر المبارك او المورق كما يحلو للبعض تمسيته و هو قصر غالب الظن ان بناء كان على أنقاض قصر المعتمد بن عباد،  و أحد ملوك أشبيلية و  في حينها كانت دولة و  كانت من دول ملوك الطوائف و قد كانت شديدة في عصرها، توجهت من صباح ثاني يوم بأشبيلية لقصر المورق و كأغلب الأماكن السياحية كان ثمن الدخول 15 يورو، و قد تسائلت عن امكانية توفر مرشد خاص بي فقيل لي أن هناك مرشد لكن يجب ان تكتمل المجموعة ففضلت الدخول دون مرشد فلربما استنزف مني وقت و انا أنتظر إكتمال هذه المجموعة، دخلت للقصر و الحقيقة تقال كان قصرا عظيما في تشييده و يستحيل ان يكون هناك قصر جميل قبله الا قصر الحمراء، و هو ايضا قد تعرض للتحريف و التغيير و الزيادة فقد زاد ملاكه الجدد عليه الكثير من الغرف و الزخرفات و الدور، ولكن المعمار العام بقى على ما هو عليه، و ايضا كان المورق يتمتع بالزخرفات كما رأيت في الحمراء فقد نُقشت على جدرانه العديد من الايات القرانية و الأبيات الشعرية التي تختلف في معانيها بين الفخر و الحكمة و الموعظة.

باحة قصر المورق 


الفرق واضح بين المعمار الإسلامي القديم و الإضافتا المسيحية الجديدة في الجانبين!



كان ذاك اليوم هو الجمعة لذا كنت مرتبط بموعد صلاة الجمعة قبل الإنطلاق لقرطبة، فأسرعت الخطى بالقصر بعد أن جُلت في أغلبه و تأملت مليا كافة التفاصيل الإسلامية الموجودة به و خرجت من بعدها لتناول وجبة فطور فقد خرجت دونها في صباح اليوم، أرتأيت أن الوجبة يجب ان تكون بالقرب من مسجد اشبيلية الجامع، وصلت للمسجد فوجدته بالفعل مقفلاً، أفطرت بالقرب منه و ما هي الا لحظات حتى فُتح المسجد فدخلت و صليت تحية المسجد و أنتظرت الخطبة التي كان من المفترض أن تكون على اقصى تقدير اما 1 ظهرا أو 1.30 فانا يجب ان اسافر لقرطبة  وهي ليست بالقريبة و تحتاج مني وقت، أتكأت على الجدار أستغفر قليلا فإذا بشاب ابيض ملتحي يضع نظارات طبية على عينه يدخل للمسجد، لمحته من بعيد و اشحت بنظري، رأيته يصلي تحية المسجد و من ثم أقترب مني وأتكأ على الجدار و بادرني بالسلام، فسألته عن موعد صلاة الجمعة فأخبرني أنها ستكون في 15.00 بالضبط فأنزعجت قليلا فلو كنت اعلم ذلك لأنطلقت مبكرا و صليتها في قرطبة، ولكن شاء الله أن تكون مثلما كانت، تحدث الي الشاب قليلا و عرف بنفسه انه من تركيا و عرفته بنفسي انني عربي من ليبيا فأخبرني انه يجيد العربية بشكل جيد، فتغير لسانه على الفور اصبح يتكلم العربية بشكل ممتاز و هو ذو 19 ربيعاً فقط، أخبرني أنه ولد في المانيا وبها تعلم الألمانية و من ثم رجع لتركيا فأكتسب لغته الأم التركية و من ثم تعلم الأنجليزية في السنة الأولى من دخوله للجامعة فالتعليم في تركيا يُلزم الطلبة بتعلم الأنجليزية في السنة الأولى من دخولهم للجامعة، و بعد ذلك أستهوته جدا اللغة العربية  على إعتبار أنها لغة القران و الأئمة المشهورين في الإسلام ورثوا علومهم الأصلية باللغة العربية فأعتكف على دراستها و تعلمها في تركيا مدة من الزمن ثم سافر للأردن 3 أشهر لتعلمها بين ناطقيها، و كان من طريف ما قال لي  و نحن نتحدث انه مستغرب انني أتحدث العربية بشكل سليم دون تلكأ أو بطء فأستغربت الأمر بشدة فهي لغتي الأم فأخبرني أنه حين تواجد بالأردن كان عامة الناس عندما يتحدث لهم بالفصحى يردون عليه اما بالأنجليزية أو العربية الدارجة فترسخت لديه فكرة ان الفصحى هي لهجة غير متداولة بشكل عام فأخبرته انني اتكلمها بشكل عادي جدا و غيري الكثير يتحدث بها ولعل ذلك يرجع للطبيعة الليبية والتي تعتبر القبائل البدوية هي المكون لأغلب شعبها و هم الذي حافظوا على اللغة العربية في الصحراء دون إعوجاج أو تأثر باللغات الثانية، المهم أننا تبادلنا اطراف الحديث مطولا عن عدة أمور و كان مما اخبرني أنه هنا لدراسة و تعلم اللغة الاسبانية فزاد اعجابي به جدا فهو الان لا يتعدى 19 عاماً يتكلم التركية، الأنجليزية، الألمانية، العربية و الأن يتعلم الأسبانية، كما ان له نصيبٌ من العلم الشرعي الديني، ودعته بعد إنتهاء الخطبة وانا أنوي التوجه لقرطبة حيث البلاد التي فاقت شهرتها الافاق في فترات عزها حيث المنصور ابن ابي عامر حيث هشام حفيد صقر قريش حيث مسجد قرطبة الشهير حيث قنطرة قرطبة العظيمة حيث كل شئ جميل هناك.

استقليت القطار متوجهاً الى قرطبة و وصلت متأخرا قليلا الى هناك نظراً لفوات موعد القطار الأول فأضطررت لإنتظار الثاني فأستقليته وكانت المسافة قرابة 4 ساعات و عندما وصلت كنت أخر المغادرين للقطار فلاحظت أن هناك عجوزا بجنبها عدة حقائب ولا يمكنها رفع الكل مرة واحدة واستغربت من ان الكل قد غادر دون ان يساعدها أحد، فبادرت بالتوجه لها و أخبرتها باللغة الأنجليزية أني أود مساعدتها و هذه كانت احد اهم المشاكل التي تواجه اي سائح فعامة الناس في اسبانيا لا تتحدث الأنجليزية مطلقاً، صحيح أنه يمكنك العيش و الحياة معهم نظرا لكونهم ودودين جدا لكن تظل اللغة مطلوبة للتخاطب، المهم أني أخبرتها أني أود المساعدة فلم تفهم مني فبادرت بأخد حقيبتين من الثلات حقائب فمسكت يدي كأنها تظني سأسرق الحقائب فكررت كلامي من جديد أني أود المساعدة و اشرت لها بلحاقي، في منتصف الطريق أخدث الحقيبة الثالتة منها فهي كانت تعيق الحركة فأخدتها لكي تسرع الخطى، وفي منتصف الطريق من القطار حتى أوصلتها لسيارة الأجرة كانت تكلمني بالأسبانية و لم أفهم منها شئ ولكنها كانت واضح من وجهها أنها تشكرني أو شئ من هذا القبيل، المهم أني أوصلتها لسيارة الأجرة فأمسكت يدي كأنها تريد مني المجئ معها لكي توصلني فأخبرت السائق أن يشكرها بالنيابة عني و يعتني بها، أستقليت الحافلة من محطة القطار حتى مقربة من اقامتي في قرطبة و بالطبع كالعادة كانت بالقرب من الاماكن السياحية كمسجد قرطبة و قنطرته الشهيرة، أستملت غرفتي المشتركة في الهوستل و تعرفت على الموجودين بها، و من ثم فضلت ان أخرج للتجول في قرطبة و في الحي القديم الذي يضم المسجد و كل ما بني في قديم الزمان، عندما مررت أمام مسجد قرطبة أستوقفني أحد الأبواب فوقفت و رجعت بي الذاكرة أكثر من 18 عاماً للوراء حيث كانت صورة
أحد أبواب مسجد قرطبة و الذي كان
 غلاف كتاب المؤرخ السرجاني
هذا الباب الشهير هي غلاف 
كتاب " الأندلس من الفتح للسقوط " للمؤرخ الشهير راغب السرجاني و كان الكتاب من ممتلكات والدي " صالحين صالح البطي"  رحمة الله عليه كما ذكرت في بداية التدوينة، لم اتخيل يوماً أني سأمر من امام هذا الباب رغم أني حلمت مرتين بأني أتجول داخل مسجد قرطبة الكبير لوحدي و أقف بين أعمدته لكن كان الحلم شئ و الواقع عندما يتحقق شئ أخر، تجولت ملياً في أزقة قرطبة بحثا عن مطعم حلال فقد كنت جائعاً جداً، وجدت أحد المطاعم الحلال مفتوحة فتناولت عشائي بداخله ومن ثم أستكملت الرحلة أتجول حتى وصلت لقنطرة قرطبة الشهيرة و هي جسر يربط شرق قرطبة بغربها و في وقتها كانت معبراً إستراتيجيا مهما جدا لقرطبة، أمر ببنائها حاكم الأندلس السمح بن مالك بامر من أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز و قد كتب السمح بن مالك لأمير المؤمنين يستأذنه في بناء او ترميم القنطرة الواصلة بين شقي قرطبة فقد كانت بالأساس مبنية بامر الأمبراطور الروماني أغسطس،  ولكن بفعل عوامل التعرية تهدمت فسمح له بترميمها و جعلها متينة  في العام 101 هجرية لكي تكون منفذ للناس و الجيوش، و تعرضت القنطرة للتهديم و الترميم أكثر من مرة حتى جاء المنصور ابن ابي عامر ليأمر ببناء اخرى تخفف العبئ عن هذه القنطرة، و كعادة المنصور يحاول ان يجعل بصمته واضحة في قرطبة فهو أمر ببناء القنطرة لكي يكون له الفضل بها كما كان له الفضل في بناء الزاهرة و هي كالبيت الأبيض في أمريكا الأن، مدينة لإدارة شؤون الدولة وه وعكس ماكان عليه ملوك بني أمية سابقا فقد كانوا يديرون الحكم من ميدنة الزهراء في وسط قرطبة. أنهيت جولتي الليلية قرابة الثانية بعد منتصف  الليل وأتجهت للهوستل على أن أقوم من صباح اليوم التالي مع الثامنة صباحاً لبدء جولتي الرسمية في قرطبة فهي ايضا كان لها نصيب يوم واحد فقط في الرحلة قبل التوجه لمدريد ومنها لباريس و العودة لتونس.
قنطرة قرطبة - ليلا

قنطرة قرطبة -  نهاراً

أفقت باكراً في ثاني أيامي بقرطبة و انا كلي حماس أن أتجول في قرطبة التي فاقت الأمصار علماً و حضارة في وقت ما ، أتجهت لوسط قرطبة القديم لدخول المسجد، في طريقي لوسط المدينة لفت نظري أن السياج الحديدي الملاصق للنهر به
أقفال العُشاق - قرطبة
أقفال كثيرة و هي كما أظن أنها مشابهة لفكرة الأقفال على جسر العشاق في باريس، حيث يأتي العاشقين و يضعان قفلاً حول السياج لكي يضمنا أن الود ما بينهما سيظل للأبد، ولك أكن أعرف أن تلك العادة قد أستحدتث ايضا في قرطبة بعد باريس، المهم أنني أكملت طريقي للمسجد  فأستوقفني هناك رجل بدا لي من ملامحه انه ليس اسباني كما بدا له من ملامحي أنني كذلك، أخبرني مباشرة بالعربية أنه مرشد سياحي هنا فإن كنت ارغب بمرشد فهو جاهز و الثمن لجولة ساعتين هي 45يورو، فأخبرته ان المبلغ كبير على ميزانيتي، ولا أبخسه حقه لكن المبلغ يعتبر اعلى من ميزانيتي، بعد نقاش قصير وصلنا لباب مسجد قرطبة و الذي يسمى رسمياً  مسجد و كاتدرائية قرطبة، أطلعني على بعض التفاصيل بالمسجد و كيف هي افضل الطرق للتجوال بداخله و بعد نقاش أخر قصير أتفقنا على 25 يورو لجولة ساعة لأنني كنت على عجلة من امري فالوقت ليس في صالحي أيضا، طلب مني أن أشتري تذكرة دخول للمسجد و أتجول براحتي داخل المسجد فهو مرشد خارج المسجد يدلني على الأماكن السياحية و التي تخفى على السياح أمثالي و يشرح لي الكثير عن تفاصيلها، دخلت للمسجد و أندهشت جداً من الأعمدة الكثيرة داخله و ايضا تحول الكثير من زواياه لمصلى للنصارى و كان هناك الكثير من القبور لفرسان و ملوك  نصارى ماتوا في قديم الزمن و أشتروا لنفسهم اماكن في المسجد، تجولت مليا داخله قرابة ساعة و نصف و كنت ابحث مطولا عن محراب المسجد ذاك المحراب الشهير الذي طافت صورته كل كتاب تحدث عن قرطبة و الأندلس، كان المسجد واسع جداً و يرجع ذلك للتوسعات الثلاث التي حدث عليه ففي البداية أمر بنائه عبدالرحمن الداخل " صقر قريش "  في العام 784 هـ و كانت أخر التوسعات بأمر الملك المنصور محمد ابن أبي عامر في العام 987 هـ حيث كانت توسعة مطلوبة نظراً لإزدياد عدد المصلين و ايضا كانت باحة المسجد التي تجولت فيها هي ملتقى لكل الجيوش التي تستعد لفتح المدن شمال الأندلس، فقد كانت الجيوش تُجيش في باحته و تُعبئ معنويا و تنطلق من هناك، خلال تجوالي بالمسجد كنت أنقل الجولة بالبث المباشر عبر موقع الفيسبوك لمتابعي صفحتي ممن طلبوا مني بث الجولة وخاصة داخل مسجد قرطبة الشهير و هو بالمناسبة يدعى مسجد كاتدرائية قرطبة وهو مملوك للفاتيكان كحال اي كنيسة في العالم و ليس لبلدية قرطبة و الدولة الإسبانية، و كان مما حدث منذ 10 سنوات أن الكنيسة عمدت الى تغيير الاسم بحذف كلمة مسجد فأصبح كاتدرائية قرطبة و لكن الأمر وجد معارضة شديدة من سكان قرطبة الذين يعتبرون المسجد و تاريخه جزء من الهوية القرطبية ولا يجوز تغييره و خاصة ان الاسباب و الدوافع دينية و لا مبرر لها، و تم إرجاع الأسم السابق مسجد و كاتدرائية قرطبة.

مسجد قرطبة - صورة أنترنت 

كنت أتأمل أعمدة المسجد الفريدة و أتذكر ذاك المنام الذي أتذكره بالتفصيل مرتين أنني اقف لوحدي داخل مسجد قرطبة و التي أعرفها من خلال الكتب و الصور، في ذاك المنام كنت اتجول لوحدي و أقف أؤذن بالقرب من أحد أعمدته، فلما تذكرت المنام رفعت الأذان داخل المسجد بصوت هادئ و هو الذي كان يُصدح فيه بالآذان بصوت عالي،  وكان مما أخبرني به المرشد أن الأراضي التي بُنيت عليه كانت تُشترى بواسطة بني امية في قرطبة اي أنها لم تكن تُسلب كما يعتقد البعض، فقد كان بني أمية من ميسوري الحال نظرا لان سلالتهم هي التي كانت تحكم كل هذه الاراضي في تلك الفترة،
في وسط مسجد قرطبة كما رأيتها بالمنام قبل بضع سنوات
خرجت من المسجد وكنت اتطلع لشيئين أن أكمل الجولة مع مرشدي القرطبي و من ثم  أنطلق من قرطبة لمدريد في رحلة العودة لباريس، أخبرني المرشد أن قرطبة و حييها القديم الجميل لايكفيه ساعتين و هما فقط ماكان لدي قبل أن أنطلق لمدريد ولكني لا مناص فساعتين مع المرشد القرطبي كفيلتان بزيادة محزوني المعرفي عن هذه المدينة العجيبة، و من فوائد المرشد أنه يعرف تفاصيل صغيرة عن الميدنة فهو يدخلك لمنازل و أماكن ربما مررت بجنبها ولم تدرك انها مزار سياحي.

 كان من روعة الجولة أن مرشدي الأمازيغي يحفظ الشعر العربي بشكل عجيب فهو يستشهد بشعر شعراء قرطبة و الأندلس عند حديثنا عن اي حدث حدث بالمدينة، كانت السماء تمطر حينها مما أعطى الجولة رونقاً جميلا، مررنا بالكثير من الأماكن المدهشة و  كان مما مررنا به و لم ندخله بناء على رغبة المرشد  هو متحف مخصص لعرض مجازر محاكم التفتيش فقد اخبرني انه متحف يحمل تاريخ اسود عن فترة تم فيها نقض العهد و ذبح و قتل و تشريد الالاف  المسلمين من سكان قرطبة و غرناطة و غيرها من المدن الاندلسية بعد وقوعها في يد النصارى، كانت فترة مظلمة للاسف، كانت اخر محطتنا في قرطبة هو متحف قرطبة حيث تجد رسوماً كثيرة و كبيرة جدا توضح كيف كان شكل قرطبة في أوجها و بكل صدق كانت لوحة قرطبة هي أشد ما ادهشني بعد زيارتي لمسجد قرطبة، أندهشت كثيراً من معلومة محددة ان سكان قرطبة في أوجها كان أكثر بكثير مما هو عليه الأن و كانت الكتب  و المكاتب بشكل لا يصدق، اللوحة توضح لنا قرطبة و ضواحيها و يمكنك رؤية كل المنازل من الصغيرة حتى العظيمة التي تشبه الفلل في عصرنا الحالي، و للامانة كانت المدينة اكبر بكثير من عدة مدن حالية في ليبيا نعتبرها كبيرة!.
محراب مسجد قرطبة الأشهر بين كل المحاريب القديمة

انتهت الرحلة في قرطبة و قد كان فراقي لها غير سعيد فقد أحببتها كما احببت غرناطة  و كنت أود ان تكون رحلتي بها أكثر من هذه المهمة و لكن المتاح من الوقت لا يكفي، كما ذكرت سابقاً كنت اُفضل أن اجرب كل وسائل المواصلات المتاحة في الرحلة و قد تبقى منها السيارات الخاصة بالمواطنين، استخدمت برنامج Bla Bla Car  و هو برنامج مواصلات شبيه بأوبر و لكنه منتشر اكثر في دولة اسبانيا، فيكفي ان تسجل فيه و تختار نقطة الإنطلاق و المقصد و التوقيت الذي يفترض انك تريد المغادرة فيه، فيخرج لك نتائج البحث تتضمن اسماء السائقين و نوع سياراتهم و ماعليك الا أن تختار احد النتائج و تعطيه بعض التفاصيل عنه  و مكانك الحالي و على الفور يفترض بالسائق ان يعطيك الموافقة أو الرفض بناء على مكانك الحالي، أخترت السيارة الأولى فأخبرني سائقها انه لا يريد الدخول للمدينة و يُفضل المغادرة الأن، أخترت سائق أخر فأتفقنا على أن يكون اللقاء بالقرب من محطة قرطبة العامة بعد نصف ساعة من الأن، توجهت للمحطة بشكل سريع و لكن لم أعرف بالضبط اي سيكون السائق فقد كنا نتحدث الأنجليزية ولكن وصف المكان لم اعرفه بالضبط لكبر حجم المحطة دخلت لأحد المحلات بالمحطة لشراء شئ ما فاتصل بي السائق فطلبت من الفتاة التي بالمحل ان ترد عليه لتخبرني اين يقف هو بالضبط كي أوفر عليه عناء الإنتظار، ساعدتني مباشرة الفتاة و بمساعدة كل زبائن المحل أرشدوني للمكان بالتفصيل و للأمانة الشعب الأسباني ودود و مُحب للمساعدة بشكل كبير لكنهم ما يعيبهم هو أنهم لا يتحدثون الأنجليزية على الإطلاق و هو عائق في بعض الأحيان.

كانت سيارتنا تضم السائق و فتاتين من اسبانيا و انا، وكان من المقدر أن تكون الرحلة من قرطبة الى مدريد  قرابة الاربع ساعات خلالها دار حديثٌ شيق مع الشاب و الفتاة عن الكثير من الأمور كتاريخ قرطبة و كرة القدم و الوضع الحالي في العالم فقد كانوا شبابً جامعيين و كانت الفتاة مهتمة بالأدب و  التاريخ العربي فوجدت الحديث معي فرصة للحديث في ذاك المجال الذي تحبه، التنقل بالسيارة في دول جديدة ممتع في حال كان لديك الوقت الكافي، أقتربنا من مدريد ولم اكن قد حجزت اي مكان للإقامة الليلة، دخلت بسرعة على الإنترنت و بحُث عن الأمكان المتاحة و اخترت هوستل في وسط المدينة بالقرب من الساحة الكبرى  بوسط المدينة و كما يقول لها الأسبان  بلاثا مايور و هي ساحة من أهم الساحات في مدريد، بل علي مستوي إسبانيا كلها، ففيها تقام الاحتفالات الرسمية في هذه الساحة بمدريد، ايضا كان لدي أقل من يوم ففي اليوم التالي كان لزاما علي أن أكون بباريس، المهم أني دخلت مدريد و انزلني الشاب قرب محطة مدريد للقطارات و التي منها سأصل لمحل إقامتي بشكل سريع، ودعت رفاق الرحلة و أنطلقت للمحطة و بالطبع لا يفارقني تطبيق جوجل ماب الذي يعرف كل شئ عن هذه الأرض و عن كل المواصلات البرية في اي دولة لذا هو صديقك المقرب في اي تجوال عالمي، لحظات بالقطار وجدت نفسي بالقرب من محل إقامتي حيث وجدته عامراً بالشباب نظرا لموقعه بوسط المدينة، كنت متعباً جدا، أستملت سريري و لم اكن انوي الخروج الا أن الجوع قد اخد مني مأخداً فلابد من الخروج و البحث عن عشاء و كنت امل أن اجد اي مطعم تركي او اي مطعم حلال بالقرب من محل اقامتي ولكن نتائج القوقل كانت عكس المتوقع فقد كان المطعم بعيدا نوعاً ما، كان مطعما تركيا و لكن جودة الطعام انستنى الكثير من التعب تلك الليلة، تناولت عشائي و اتجهت عائدا للهوستل للنوم و أخد قسط وافرا من الراحة بعد يوم متعب في قرطبة.

استيقطت صباحاً و كنت قد خططت فقط لزيارة ملعب السنتياغو برنابيو ففي الحقيقة عندما بحث عن مدريد لم اجد الكثير من الأمور التي يمكنك أن تجدولها في يومك و  لعل البرنابيو هو افضل الخيارات المتاحة لنصف يوم بالمدينة، كانت هناك محطة بالقطارات اسمها السنتياغو برنابيو لذا ظننت ان الوصول للملعب سيكون سهل لكني ضعت داخل انفاق المترو و بعد عناء طويل وصلت للملعب و المفاجأة أن طابور الوقوف للحصول على تذكرة تجول داخل الملعب كان اطول من طوابير المصارف عندنا أو طوابير البلاك فرايدي عند الكثير من الدول، الان لا مناص من الوقوف في الطابور للحصول على تذكرة للدخول لها الصرح العملاق، بعد قرابة الساعة من الوقوف كنت قد اخدت تذكرة ثمنها 25 يورو تتضمن زيارة الملعب بأغلب أروقته و بعض الأوراق التذكارية، كان ذاك اليوم باردً برداً قارسا، فلا أبالغ أنني ان قلت ان لم أستطيع امساك هاتفي بيدي لأني يداي كانت متجمدات و لكن ما ان دخلنا لأروقة الملعب حتى وجدنا الدفء و تمتعنا برؤية الكؤوس
يتميز ريال مدريد بأنه صاحب الرقم القياسي في الفوز
بدوري ابطال أوروبا
التي تحصل عليها نادي ريال مدريد و كان المعرض يحوي الكثير و الكثير من الأمور التذكارية التي توثق لتاريخ ريال مدريد، مع انتصاف الرحلة كنت بدأت اشعر بالقلق فكنت أخشى ان يفوتني موعد رحلتي الى باريس، لذا اسرعت في خطاي حتى انني أجتزت بعض المحطات بالملعب و أخرها المتجر الرسمي للفريق و الذي كان برعاية شركة أديداس، فكرت قليلا في ان الرجوع بالقطار هو مضيعة للوقت فلربما تأخرت و فاتتني الطائرة، فأخترت سيارة اجرة خاصة و للأسف هي تكلف الكثير حوالي 50 يورو، ولكن حكم الوقت، رجعت للهوستل و أخدت اغراضي و أنطلقت للمطار و وصلت في التوقيت المحدد، أتممت اجراءات التذكرة و صعدت للطائرة و ماهي الا لحظات حتى كنت في طريقي الى مطار شار ديغول بباريس.


ملعب السنتياغو برنابيو

وصلت لمطار شارل ديغول و الذي كان كأنه مدينة وليس بمطار فيمكنك المشي فيه بشكل طويل حتى تتعب ولن تدركه، بل ان المطار يحوي قطار للتنقل بين أطراف المطار، أستقليت سيارة خاصة للوصول مباشرة لمحل اقامتي فقد كان الوقت متأخر و كانت يجب ان أستيقض من النوم مبكراً للإنطلاق الى مطار باريس اورلي و من ثم الى مطار تونس قرطاج بتونس وكان السعر 100 يورو على ان يقلني للهوستل الليلة و يأتي صباح الغد ليرجعني للمطار من جديد، نمت تلك الليلة بشكل عميق فالمنطقة هادئة جدا و مريحة للنفس، نهضت من يومي الثاني و اتجهت لمطار باريس اورلي، ولكن مما أزعجني في الصبح ان الأخبار من ليبيا أن هناك مجموعة مسلحة هجمت على مطار معيتقية الدولي بطرابلس و هناك بعض التخريب بالمطار و بالتأكيد توقفت حركة الملاحة الجوية هناك، و هذا يعني أني مضطر للبقاء أيام إضافية بتونس حتى تهدأ الأوضاع  و أعود من جديد لطرابلس.

كان ذهابي للمطار على نفس سيارة الأجرة التي أقلتني من المطار للفندق يوم الأمس، رغم ان تكلفة التاكسي هناك غالية فهي 50 يورو للرحلة الواحدة لكن لم أكن أريد الدخول في سباق مع الوقت وانا أتنقل بواسطة الحافلات او القطارات، ففضلت دفع المال لكسب الوقت, كانت باريس هادئة جدا و الطرق لاتزال غير مزدحمة فاخبرني السائق أن باريس تكون مزدحمة بين الساعة 6.30 حتى 8 صباحا و من ثم تصبح هادئة حتى الفترة مابين 4.30 حتى 6 مساء و هو موعد ذهاب و عودة الموظفين، وصلت باريس اولى و بحثُ عن البوابة الخاصة بي و أتممت إجراءات الصعود للطائرة حتى وصلت للقاعة الأخيرة المخصصة لإنتظار الصعود للطائرة، و في حقيقة الأمر اصابتني الدهشة من هذه القاعة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال ان أقارنها مع اي مطار زرته من قبل، فهي واسعة جدا و لديها من الديكور مايجعلك تخالها قاعة للمناسبات أو المهرجانات كما ان الخدمات العامة متوفرة بكثرة فتحسب نفسك في احد الأسواق الفخمة، كما ان للترفيه نصيب من هذا الجمال، فللإطفال مساحات مخصصة لهم و لكبار السن العاب البلايستيشن في طاولات عديدة و العديد من الترفيه في حال تأخرت احد الطائرات كما ان الإنترنت مجاني بالطبع، لم تتأخر الخطوط التونسية بل وصلت في موعدها، و مع دخولي للطائرة ادركت ان رحلة الأندلس قد أقفلت أخر أبوابها، جلست في مقعدي فتذكرت فجأة ذاك اليوم الذي كنت فيه جالسا في نفس الخطوط و انا متوجه من تونس لباريس في بداية الرحلة و كلي شوقٌ لزيارة غرناطة و قرطبة، الحياة تمر بنا بلمح البصر، و الكيس الفطن من ملئها بما يجعل حياته مميزة و غير روتينية. وصلت مطار تونس قرطاج يوم 15 يناير 2018، و أنا ممتن لله عز و جل انه سخر لي سٌبل هذه الرحلة المميزة في مضمونها و مظهرها، و هي رحلة ينتظرها الكثير ممن تستهويهم اسبانيا و الاندلس خاصة.

عبر برنامج الأنستغرام ودعت متابعيي الذين كنت احرص على رفع اغلب أنشطتي بالرحلة هناك، فأنا غير نشط جدا على هذا التطبيق ولكن كانت الرحلة شيقة لدرجة أنني كنت حريص أن يعيش اصدقائي معي كل خطواتي بالرحلة، لعل البعض يتشجع للقيام بنفس الرحلة، و التي ستجد فيها الكثير من الدروس المستفادة، فكما يقول المثل الليبي "  اللي ما قري ما عرف فرض ولو يتوب مازال جاهل واللي ما مشي ما عرف الأرض ولا يوردك عالمناهل "، نعم من لم يقرا لن يعرف فروض الإسلام ولو تاب فهو يحتاج للقراءة ليدركها، و من لم يسافر و مشى في الأرض لا يعرف الأرض و لا يمكنه أن يصبح خبير و كانت الدلالة على المناهل و هي الأبار التي تجلبون اليها الأبل في قديم الزمن لتشرب الماء و تروى ضمأها، فمن لم يمشي و يسافر في الصحراء لا يكون دليل القوم الى المناهل.


هذه تدوينة العبد الفقير لله صلاح الدين صالحين البُطي أتمتها في يوم الخميس 28 يونيو 2018 في أحد المقاهي القديمة بشارع الإستقلال باسطنبول التركية، و كنت قد بدأتها قبل 3 أشهر على أقل تقدير، وكنت اكتب فيها كلما كنت في راحة بال او بالعكس إن  كنت منزعج لكي أهدأ، كتبتها لنفسي قبل أن تكون لعامة الناس و إن كنت حريص على ان يقرأها الناس و لكني خلال هذه الجولة رأيت الكثير من الأمور التي لربما لم أرد كتباتها ولعل هذه التدوينة تذكرني بها في مستقبل العُمر إن كان فيه بقية، حتى اللحظة لا اعرف كيف سانشرها هل بالكامل ام مُجزأة على هيئة أجزاء ولكن ما أعرفه الأن أنني فخور بكتابة تدوينة تجاوزت  عدد كلماتها 13 الف كلمة.

المقهى التركي حيثُ أكملت التدوينة - أسطنبول


نسأل الله التوفيق

هناك 3 تعليقات:

  1. انا لم يتاح لي زيارة فرنسا ولا اسبانيا وان كنت اتمنى دائما زيارة قصر الحمراء والوقوف على اهم معالم الحضارة العربية ولكنني بقرأتي لما دونته انت خلال رحلتك المرفقة بالصور جعلتني اشعر وكأنني كنت انا من قام بها فلك كل الشكر والتقدير على ما دونته وحتى ان لم يتحقق حلمي بزيارة اسبانيا فانا سعيدة لما عشته بها من خلال حروفك وفقك الله وسدد خطاك

    ردحذف
  2. سرد شيق مليئ بتفاصيل عايشتنا جل رحلتك وفصولها
    استمر حفظك الله

    ردحذف
  3. وفقك الله .. رائع .. ينفع كتاب أرشادي بعنوان كيف تجوب العالم بأقل التكاليف و أكثر أطلاع

    ردحذف