الخميس، 7 فبراير 2019

الإنطباع الأول بين الواقع و الإنترنت







الإنطباع الأول بين الواقع و الإنترنت

كثيرون هم من يرددون عبارة " الانطباع الأول مُهم جدا " و هي تعني أن لقاءك مع شخص لأول مرة مُهم ليحكم عليك و على شخصيتك و على كل مكنونك الغير ظاهر، و يأتي هذا الحُكم من بعض تصرفاتك و حركاتك و كلماتك و إيماءتك إن كان فطناً، فتتكون لديه صورة عنك بشكل كبير، فمثلا إن كان لقائكما الأول كله حديث من طرفك عن سياراتك و رحلاتك و أموالك فأنت شخص سطحي و لعل الغرور أيضا قد أصابك، رغم أنه ربما تكون عكس ذلك، لكن هذا ما يحدث كانطباع أول، و تحتاج الكثير من الوقت لتصحيحه فهو الأساس الذي يبنى عليه الرابط الإنساني بينك و بين الشخص الذي قابلته و قيمك، لذلك تجد الكثير يركز على اللقاء الأول سواء كان مع بني جنسه أو من الجنس الأخر، فتراه يتأنق في ملبسه، و في اختياره عطره، بل ان البعض يُفضل تقليل الكلام بشكل كبير لكي لا تذهب منه كلمة تفسد كل ما رتبه قبل اللقاء.


كل تلك الأمور هي فرضيات حياتية تنطبق على معظم ظروف الحياة لكن تبقى لكل قاعدة شذوذ، و مع تقدم التكنولوجيا و تقدم وسائل التواصل بين البشر أصبحنا يوميا نتعرف على اشخاص جُدد، بل أن بعضهم لم تدري أصلا أنه تعرف عليك، فبعضهم قد كون فكرة تامة عن شخصيتك من تعليق وضعته لأحد أصدقائك أو على صفحة ترد على قضية أمنية أو اجتماعية، و المُشكل هنا ان هذه الوسائل جوفاء تماما و خالية من المشاعر بشكل رهيب، ففي أرض الواقع يصاحب الكلام تعبيرات الوجه و التي أعتبرها مُكملة للكلام بل أن البعض يعتبرها هي الأصل قبل الكلام كعالم النفس الإيراني ألبرت
محرابيان و الشهير بقاعدة قاعدة السبعة والثمانية والثلاثين والخمسة والخمسين بالمائة أي أن  7% فقط من الاتصال يكون بالكلمات و 38% بنبرة الصوت و 55% بلغة الجسد، ففيها يعرف الشخص المستمع نية صاحب الكلام، و لك أن تتخيل أن شخص ما يسرد نكتة لكن يسرها بشكل جامد دون أي تعابير كأنما يعلن قرار حكومي على أحد القنوات الرسمية للدولة، هنا ستشعر أن النكتة ناقصة رغم أن محتوى النكتة الكلامي قد قيل لكن كان قد ينقصه التعابير التي ربما تكون هي من تُضحكنا و لنا في الممثل المصري عادل أمام خير مثال، فلتفترض أنك ستشاهد مسرحية الزعيم لأول مرة و لكن ستستمع فقط عبر المذياع، هل كنت ستضحك عليها كما لو كنت تشاهدها ؟



الإنترنت قرب المسافات و جعل البعيد قريب، لكن ما يخرج من القلوب من كلام أصبح بعيداً جدا، فكم من صداقة أو تعارف أنتهى بسبب كلمة منطوقة لم يُقصد منها ما فهمه المتلقي، و كل ذلك لأن المكتوب هو جماد هو شيء مُجرد من المشاعر هي حروف يقرأها الطرف الأخر و لا يدري ما نفسية الكاتب حينها، أهو غاضب، مريض، مرهق، منتشي بالمخدرات أم هو فقط يكتب دون أن يبالي بأحد الحوارات على الإنترنت التي في مُجملها بين حديثي التعارف تأخذ طابع المرافعات في المحاكم، فكل كلمة تُفهم على سياقين سيؤخذ السياق السيئ منها، و كل كلمة لها عدة مقاصد، و كل كلمة عنيفة قليلا تُفسر على  أنها هجوم و محاولة لكسب الغلبة على الطرف الأخر و المشكلة الأخرى التي نركز عليها  أن الحوارات على الإنترنت لا تكون عفوية أبداً حتى لو كنا لم نقصد أن نكون غير عفويين فنحن كذلك، لأننا نُفكر قبل ارسال أي رد أو أي سؤال، و تخرج الأجوبة مُحكمة و مضبوطة و فيها بعض الخُبث البشري الفطري، و هذه النقطة تكون غير شائعة في ارض الواقع، ولا يتمتع بها الا القليل ممن يتمتعون بهدوء في الحديث أو ذوي الحنكة في الردود كالشعراء و الكُتاب و الُحكماء.


التكلُف عبر الإنترنت ينتج لنا الكثير من التشنجات ويُعجل بالكثير من القطيعات كما أسلفت سابقاً مع من لازال تعارفهم حديث، و الكثير من هذه الأمور تنتج بسبب الصفات الشخصية  الغير جيدة الكامنة لدينا، فمثلا الاستفزازية هي صفة غير محمودة و توجد لدى الكل لكن بنسب متفاوتة، فمن البشر من تكون لديه بنسبة ضعيفة جدا، و منهم من تفيض جعبته بالاستفزاز، و أخرين تجدهم مستفزين دون قصد، فكلماتهم تحمل معاني استفزازية و لكن لا يدري بها و بتأثيرها، و هنا في لحظات التعارف الحديث ستجد الطرف الأخر يأخذ موقفاً مضادا من تلك الشخصية التي فُهم منها أنها استفزازية، و لعل الكثير من الصفات الأخرى تخرج منا دون أن ندري، و تقع موقعاً سيئاً لدى الطرف الاخر، فتفهم على غير سياقها و نيتها.

أخيراً... يفيض الإنترنت بالمشاعر والعداوات والصداقات الوهمية و الحقيقة على حد سواء، و كل تلك العلاقات لو صادف أطرافها أنفسهم على ارض الواقع لم يكن لتلك العلاقات أن تحيا أو توجد، لأن المعايير التي بنيت عليها العلاقة متغيرة و مضافة اليها الكثير من تعابير الوجه و الأحاسيس. الأخرى التي هي مهمة بلا أدنى شك.




صلاح الدين البُطي.