السبت، 2 أبريل 2022

من طرابلس الى سمرقند - رحلة في عمق التاريخ

من طرابلس الى سمرقند - رحلة في عمق التاريخ 


وأنا أنظر لطشقند من الطائرة العائدة بي إلى اسطنبول كنت أفكر مالذي ساكتبه و مالذي سأقوله لمن يسألني عن أوزبكستان، هل ساخبر الناس عن لطافة الشعب التي أصنفها الأولى في الشعوب التي قابلتها بلا منازع، أم عن الغزارة التاريخية لمدنها الشهيرة، أم سنتحدث عن المعمار السمرقندي الفريد، أم عن تلك التقاليد البسيطة الجميلة في كل مدينة زرتها، أم عن الحياة البسيطة الرخيصة، ام عن صلابة الدين الاسلامي في كل بقاع أوزبكستان، أم عن دولة أنجبت البخاري و الخوارزمي و النسائي و البيروني و الزمخشري و الترمذي و غيرهم، حقيقة ما سأكتبه لن يصف تلك البقعة من الارض،  و ربما أكون هنا أكتب بشئ من العواطف ولكني متأكد أنها تستحق كل مديح و كل ثتاء.

سأبدأ من البداية، حيث أعلن الرحالة الليبي الصديق محمد السيليني ( رحاليستا ) عن تنظيم رحلة جماعية لدولة أوزبكستان، و هي الرحلة الثانية عقب نجاح الرحلة الاولى و التي كانت الى جزيرة بالي الأندونيسية و التي كنت أحد أعضائها و التي تشرفت فيها بالتعرف الى  ثُلة من الشباب الليبي الذين أعتبرهم أحد أهم مكاسب الرحلة. 

مجموعة رحلة بالي و التي نظمها الرحالة رحاليستا

المهم أن السيليني أعلن عن الرحلة و التي سيكون موعدها الثاني من ابريل حتى الحادي عشر من الشهر نفسه، بعنوان " إكتشاف اسرار أوزبكستان "، و لأني بت مؤخرا أميل و أفضل الرحلات للأماكن التي لازالت تحتفظ بطبيعتها البعيدة عن الحضارة التي أنتزعت من الكثير من المدن هويتها و جعلتها نُسخ مقلدة للحضارة الغربية. أوزبكستان واحدة من الدول التي لاتزال تعيش في معزل نوعا ما عن العولمة الغربية، و أيضا لديها من التاريخ المزدحم ما يجذب اي هاوي للتاريخ و شخصياته، فكيف لا و هي من أنجبت البخاري مؤلف كتاب صحيح البخاري الشهير، و أنجبت ابن سينا الغني عن التعريف و الترمذي و الماتردي و غيرهم من الاعلام الذين تستغرب كيف اتوا من بقعة واحدة، و لكن عندما تزور البلاد و تتبع طريق الحرير القديمة و تمر بين قصص المدن هناك تعرف كيف انها كانت أحد أهم المحطات على طريق الحرير القديمة، تلك الطريق التي كانت أهم طريق للتجارة بين الشرق و الغرب، و بالتأكيد لأوزبكستان كان النصيب الكبير من الاهتمام فموقعهم المهم كفل لهم أزدهار كبير عن طريق مرور التجارة بين مدنهم مما أحدث زخم هائل لمدن كسمرقند و بخارى و خيوة.


طريق الحرير الشهيرة، و يلاحظ أن سمرقند كانت في منتصف الخط و كانت أحد النقاط المهمة فيه


ضمت الرحلة 11 شاب من ليبيا و شاب من تونس و سيدتين من تونس، و بالطبع كان السيليني ( رحاليستا ) معنا، تم الاتفاق على أن تكون طشقند هي اول محطاتنا و نقطة اللقاء لكل افراد الرحلة و الذي كان يسميهم محمد فاميليا2، سافرت الى إسطنبول على متن خطوط الاجنحة الليبية و التي زادت سعر التذكرة الى 2000 دينار من طرابلس الى اسطنبول، و لكن عندما تنعدم الخيارات فلا مجال الا الحجز و الأختيار، كانت رحلة الذهاب من طرابلس الى اسطنبول الساعة 10 ليلاد بتوقيت طرابلس يوم 31 مارس و لأني لم أشأ الدخول الى اسطنبول فقررت أن أذهب مباشرة من أسطنبول الى طشقند بأوزبكستان، و كانت مدة الأنتظار مابين الرحلتين هي ثماني ساعات وبالليل، و هي مدة ليست هينة، فقررت أن أجرب الحجز في فندق المطار بمطار اسطنبول الدولي، وصلت اٍسطنبول و اتجهت للفندق الموجود بالمطار و لكني تفاجأت ان سعر ليلة واحدة حوالي 150$، و هو رقم ضخم جدا مقارنة بالثماني ساعات بل حتى ليوم كامل، و لحسن الحظ كنت احمل تأشيرة سارية المفعول للدخول للاراضي التركية، فقررت أن أحجز في أقرب فندق من المطار، و كان قد سبقني بيوم صديقي علي الشريف و الذي أستاجر فندق بالقرب من المطار، و نصحني عند النزول بإستخدام أوبر في حال أردت الخروج من المطار، و بفضل الله وجدت فندق حديث في منطقة قريبة جدا بمبلغ 12 دولار لليلة، و اتجهت له لانام سويعات لأعود ثاني يوم للمطار، و أكثر ما اخشاه ان أنام من التعب و تفوت عليا رحلة طشقند، و لكن بفضل الله نمت و استيقئظت في وقت مٌبكر و مررت على علي الشريف في فندقه الذي كان في طريقي، و أتجهنا للمطار حيث كانت الاجراءات الامنية سلسة و ما ان دخلنا المنطقة الخُرة بالمطار حتى وجدنا صديقنا انور المجبري و الذي سيمضي معنا ايضا لأوزبكستان، و قد كنا ثلاثتنا سابقا مع رحاليستا في الرحلة الجماعية الاولى في جزيرة بالي الاندونيسية.

أخترنا الخطوط التركية للسفر إلى طشقند، حيث كانت هي و الخطوط الاوزبكية المسيريان الوحيدان لرحلات طشقند، فارتأينا ان نجرب التركية لمعرفة جودتها خلال الرحلة، وإجمالا لم ترق لي الخطوط التركية، ربما هي احد  اوسع الخطوط  انتشارا في العالم و لكن مع رحلة طشقند كانت تجربتي عادية، و لعل سوء وجبة الطعام في الذهاب و العودة هو ما أثر على تقييمي، أستغرقت الرحلة خوالي خمس ساعات و كانت الانطلاقة مع عشية الاول من أبريل، و وصلنا الى مطار طشقند الدولي بعد منتصف الليل، و في الحقيقة لست من محبي الدخول للدول الغريبة ليلا، فستجد المطار غالبا فارغ و أصحاب سيارات الأجرة في انتظاراك باسعارهم الغالية و غير القابلة للنقاش بسبب وصولك ليلا، كما انك ستدفع ثمن يوم كامل و لم ترى منه الا ساعات بسبب وصولك متاخرا، و مع ذلك قُدر لنا الدخول بعد منتصف الليل للمطار، و بالمصادفة كان عدد من اصدقاء الرحلة في نفس الطائرة، فألتقينا و تعرفنا على بعضنا بالمطار، و من ثم قسمنا بعضنا على مجموعتين لتسعنا سيارات الاجرة و التي كانت اسعارها زهيدة نوعا ما، فالذي اوصلنا من المطار طلب فقط 15 الف سوم و هي تساوي دولار و نصف ليوصلنا الى محل اقامتنا تلك الليلة، و كان نُزل هادئ في طشقند، بتنا تلك الليلة و كانت الخميس و مع ساعات الضحى استيقضنا للإغتسال و الإنطلاق لصلاة الجمعة  لمعرفة احوال هذا البلد في الجُمعة، طلبنا سياة اجرة و اخبرناه أننا نريد مسجداً لنصلي، كانوا لا يتحدثون الانجليزية، و لكن كلمة " جُمعة " كافية ليعرف مقصدنا، حيث كان هو ايضا يهم بالذهاب للجمعة، مضينا الى مسجد في وسط المدينة، و ما أن رأيت المسجد حتى اندهشت من العدد الكبير جدا للمُصلين، حيث كان المسجد يغص بهم، و امتلئت الطرقات حوله بالمُصليين، طرحنا سجاداتنا على الارض و أستقبلنا القبلة مع المُستقبلين و نحن نسمع الخطيب يعض الناس و يفقههم في امور دينهم باللغة الأوربكية و بالطبع تجد الكثير من الكلمات العربية الدارج استخدامها في الخُطب، كنت ألحظ الكثير من المصليين يسترقوننا بأبصارهم، فقد كنا غرباء من سحنت وجوهنا، و مما أكتشفته لاحقا ان الأوزبكيين يحتفون بشكل كبير بالسائحين و هم قلة. إنتهت الصلاة و سبقني أنور و علي الى خارج الصفوف فيما بقيت أدعو من باقي الاوزبكيين، و الجدير بالذكر أن الدعاء عقب الصلاة و ركعان السنة تعتبر شئ اساسي هناك، حيث لا تجد أي شخص يخرج مباشرة عقب التسليم.

صلاة الجمعة، و يلاحظ أزدحام المساجد دائما

 المهم انني بقيت قليلا، و فيما كان علي و أنور يهمان بالمغادرة أستوقفا أوزبكي ليسألانه على مكان يبيع شفرات الهاتف النقال لشراءها، فعرض عليهم أن يقلهم بسيارته الخاصة ليوصلهم لمكان يبيع ما نريد، لحقت بهم و صعرنا على متن سيارة الأوزبكي العالية الفارهة، حيث كانت تدل هيئته على أنه شخص ثري أو يحب ان يظهر كذلك، تبادلنا اطراف الحديث معه باللغة الأنجليزية، و قد كان في طريقه ليٌقلنا لاحد المولات هناك، ونحن في الطريق فتح حسابه على الانستغرام بعد طلب علي ان يقوم باضافته، فلمحت سريعا في هاتفه ان عدد متابعيه يفوق 70 الف، فبادرىته بالسؤال عن أن كان شخص مشهور، فضحك وقال نعم أعتقد ذلك، انا من المطربيين الشباب في أوزبكستان، و لدي الكثير من الاعمال الفنية أيضاً، و يستمع لبعض اغاني في الخليج العربي و لدي الكثير من الاصدقاء هناك، و عندما رأيتكم بعد الصلاة عرفت انكم عرب فأردت مساعدتكم، و بدأ بالتعريف بطشقند و كيف أنها بادية في النمو شيئا فشيأ، و كان حوارا ممتعاً معه الى ان وصلنا للسوق و لكن وجدنا ان شركات الاتصالات لا تبيع كلها الشفرات للأجانب، و هناك نقاط معينة للبيع في أحد الاسواق الاخرى و التي كان اشهرها سوق نكست في وسط العاصمة، توجهنا هناك و ابتعنا ما نريد، و من ثم كان اتجاهنا لمكان ما ابلغنا به السيليني لنأكل فيه وجبة الغذاء، في طريقنا الى هناك صادف بعض رفاق الرحلة من بعيد منظر عًرس أوزبكي بسيط، فما ان وصلنا حتى ابلغونا أنهم يرديون التوجه هناك لألتقاط الصور و مشاركة الناس افراحهم، فلحقنا بهم، و ما ان وصلنا حتى بان لنا العرس و قد كان بسيط جدا و لكن الكل كان مبتسما و سعيدا، و لحشمة الأوزبك لم يكن العرس مختلطاً فقد كانت هناك بوابة بالورود عند مدخل العمارة و بضعة كراسي و طاولة اما العمارة يزينها ورد أحمر، و النساء تراقبنا بفرح و بسمة من شرفات الشقة الاولى و هي شقة العرس.

 رحب بنا الاوزبكييون و لم يكن يعرفوننا أبدا و لم نُدعى من قبل للمناسبة، و لكنهم رحبوا بنا و كأننا أهل العروس، أدخلونا لنجلس على الكراسي و باتت صواني الحلويات و العصائر تأتي من نافذة الشقة من النساء اللاوتي كُن فرحات جدا بقدومنا، فقد احدثنا جلبة كبيرة  في المكان، حتى ان الكثير من سكان الشقق الاخرى قد فتحوا نوافذهم و اطلوا يشاهدوننا و نحن نحدث جلبة، فبصفة عامة يعتبر الأوزبك من الشعوب الهادئة، و ما أحدثه تواجدنا هناك يحتاج لخمسين شخص او اكثر منهم ليحدثوا نفس الجلبة، أكلنا من أكلهم الحلو و عصائرهم المنعشة اللذيذة و هممنا بالخروج للذهاب لوجبة الغذاء في المطعم، فبادر أحد اهل العرس بدعوتنا لحضور العرس في الليل، فوافقنا على الدعوة مباشرة.

كانت وجبة الغذاء متنوعة و لكن أكثر ما يميزها هو اللحم، فهم مشهورين بالشواء بكل انوعه، و خلال تناولنا للغذاء خطر ببالنا ان نقوم بشراء هدية للعروسين كعربون محبة منا لدعوتهم لنا، و اتفقت مع بقية الاصدقاء على ان اتكفل بشراء الهدية على ان يقسم ثمنها على الكل، كانت وجبة الغذاء هي الاولى للفريق مع بعض لذا كان التعرف و التعريق بالنفس واجباً بالطبع، و كان المشترك بين كل الفريق هو هواية الترحال و هي التي جمعتهم رفقة رحاليستا في هذه المغامرة. أنتهت وجبة الغذاء و كما أشرت كان لزاما أن أذهب للتسوق لمعرفة مالذي سنشتريه كهدية للعروسين الليلة، ذهبت رفقة بعض الشباب للسوق الأكبر في طشقند وهو سوق نكست، وهو مبنى جميل و أنيق و ستجد به كل ما تريده من لوازم التسوق، كان القرار أن نشتري لهم شيئا مفيداً و يبقى معهم، لذلك أبتعنا بعض المواد المنزلية و التي ستفيدهم في حياتهم المستقبلية، و أردنا أضافة لمسة للهدية فقمنا بالذهاب لأشهر محل للورود و قمنا بشراء باقة ورد انيقة و رائعة، و ذهبنا بها رفقة الفريق الى اقامة العرس، كانت المراسم بسيطة جدا، و لكن كانت الوجوه مبتسمة و الضحكات تملأ الوجوه، و لوجودنا بالطبع كانت السمة الابرز في العرس حيث قمنا بالمزاح كثيرا مع العريس و مع اهل العرس، و قدمنا لهم الهدايا، و التي كانت محل فرح و دهشة من الأوزبك، نظرا لأنه لم تكن لنا اي معرفة بهم من قبل، فشكرونا كثيرا لهذه اللفتة الطيبة، مضينا للفندق للاستعداد للنوم و من الاستيقاظ فجراً للإنطلاق لرحلتنا الى اقليم خوارزم وبالتحديد مدينة خيوة.

باقة ورد كانت احدى هدايانا للعروسين 

يبعد اقليم خوارزم عن العاصمة طشقند أكثر من 1200 كم، و كان لزاما ان نأخد الطائرة في رحلتنا الى خيوة، و كان هبوطنا في عاصمة الاقليم و هي مدينة جرجانية أو كما يطلق عليها الأوزبك أورقنج، و هي عاصمة اقليم خوارزم و هي التي تضم المطار التي سننطلق منه لخيوة، مانت الرحلة قرابة الساعة، و لم نشعر بها الا و قد حطت بنا الطائرة، لنأخد بعدها حافلة تتجه بنا الى خيوة و التي كانت في السابق تدعى خوارزم، فُتحت المدينة على يد المسلمين 88 هجري على يد قتيبة بن مسلم الباهلي القائد الذي ذاع صيته كثيرا في أنحاء بلاد ما وراء النهرين، وصلنا خيوة و كنت مدهوشا بالفعل، فهي مزيج ما بين البساطة الشديدة و العمق التاريخي، فهي من ناحية الخدمات مدينة مُعدمة منسية بعض الشئ، و لكنك سترى في الحانب الاخر الكثير من الابنية التي تؤرخ للكثير من الشواهد التاريخية، ولعل " المدرسة " و مئذنة اسلام خوجة هي أكثر الابنية العالية التي ستسترعي انتباهك في المدينة الجميلة.

 مئذنة اسلام خوجة و التي يبلغ ارتفاعها 56.6 مترً بنيت عام 1908

خرجت رفقة صديقي علي الشريف للتجول في المدينة قبل أن يخرج بقية الفريق، أردنا مشاهدتها و التعرف عليها مُبكرا، لاحظنا منذ البداية أن الناس تشير الينا و تبتسم لمجرد النظر الينا، و ايضا الكثير يطلب التقاط الصور معنا، لاحقا أدركنا أن الاوزبك يحبون الزوار بشكل كبير، و أعتقد أن قلة السياح تجعل الاجنبي محبوب، و لربما لطيبة انفسهم دور في الموضوع، فهم أطيب الشعوب التي قابلتها، فطيلة الرحلة لم يضايقنا أحد و لم نرى أي شئ قد يكدرنا منهم بل بالعكس لم نجد الا كل ترحيب و تهليل بنا، المهم ان أرجلنا قادتنا الى زقاق شهير يقع فيه إثنان من المعالم الشهيرة أحدها هو مقام لشخص شهير عندهم يقال له البهلوان و هو أيراني الاصل، وله مكانة عندهم حتى ان العرسان يأتون عنده للتبرك به و سماع ايات من القران و من ثم يذهبون، و ايضا كانت هناك في نهاية الزقاق منارة أو مئذنة أسلام خوجة الشهيرة و التي بٌنيت قبل أكثر من 100عام و زُينت بالاحجار الملونة و يصل ارتفاعها الى 57 متر، و صعودها مرهق بعض الشئ نظرا لضيق الدرج و ميوله الشديد العمودي، من فوق المئذنة ستشاهد خيوة مترامية الاطراف بلونها الرمادي المستمد من رمال الصحراء الجافة التي تربض فوقها خيوة. خلال تجولنا أستوقفنا مجموعة من الطلاب صغار السن للحديث معنا، كانوا يتحدثون الانجليزية جيداً و بعض العربية، كانوا في رحلة تنظمها كليتهم بجامعة سمرقند، و تبادلنا معهم الحديث و كانوا اكثر ما يريدونه هو الحديث باللغة العربية، حتى أن أحد الشباب الأوزبك قد أنشد لنا انشودة " يا خير صحب هنا فمنكم عرفنا الهناء ..... " و كان فرحاُ جدا باننا نرددها معه و في الحقيقة كان يحفظها بشكل جيد، تبادلنا ارقام الهواتف لعلنا نلتقي بهم في سمرقند و هي الوجهة الأخيرة في رحلتنا.

عروسان يهمان بالدخول للمرور بمقام البهلوان كما جرت العادة في خيوة

كانت الاجواء متجمدة، حيث لم نكن معتادين على هذه الاجواء في ليبيا لذا كنا نرتدي ملابس وافرة بالصوف لنقي عنا البرد، و كنا كلما تجولنا نرى عرسان هنا و هناك يتجولون و يلتقطون الصور، بل ان بعضهم كان يطلب منا ان نصور معهم، و كلما وقفنا للتصوير تجمع اخرون لطلب صور معنا، أنهكنا المشي طية اليوم و عدنا للفندق للراحة للذهاب لوجبة العشاء و التي كانت في أحد القصور القديمة، كانت وجبة العشاء جيدة و لكنها لم ترق لنا، لربما الاكل الاوزبكي عامة لم يرق لنا اللهم الا اللحم المشوي فقد كانوا يشوونه بشكل جيد و هو رخيص نسبيا، فالسيخ من اللحم يكلفك قرابة نصف دولار فقط، رجعنا للفندق الريفي للمبيت و الذي كان عبارة عن مبنى بسيط من طابقين كأي فندق في بلدة نائية، و لم نكن نحتاج أكثر من ذلك، فالمهم هو الأسرة و الماء الساخن و عدا ذلك يعتبر رفاهية بالنسبة لنا.

في صباح اليوم التالي أستكملنا جولتنا في ازقة مدينة خيفا الهادئة الوادعة و التي تستطيع قراءة التاريخ في كل شئ يقع عليه بصره، فأبنيتها لازالت تروي قصة ابطال مروا من هنا و ملابس أهلها تروي تقاليد لم تُنسى، و حتى تجاعيد وجوههم تروي لك قسوة الحياة هناك و رغم ذلك تجد البسمة على الوجوه، ولا أبالغ و الله أنهم كلما رأونا أبتسموا و عندما نخبرهم أننا عرب تزيد محبتهم لنا و أعتقد أن هذا للربط بين الرسول عليه الصلاة و السلام و العرب، فحتى أني رأيت ذات مرة أثنين من كبار السن يتمسحون بذراع صديقي عاصم الطشاني و يمسحون وجوههم طلبا للبركة منه، وهو أمر لا أقبله في نفسي و لكن حب الرسول هناك قد يغلب اي معتقد.

و أنا أتجول في ازقة المدينة وجدت مبنى يوحي بأنه تاريخي، سألت فأخبروني أن أسمه المسجد الجامع، وهو اول مسجد في خيفا  و له قصة عجيبة أخبرني بها مرشد الرحلة، حيث في منتصف المسجد توجد حفرة صغيرة و هي مغطاة الان قليلا، تلك الحفرة كانت سببا رئيسيا في أسلام الكثير من الأوزبك أنذاك، حيث كان المسلمون حينها يضعون فيها الكثير من الطعام و يخبرون الناس انه مجاني لمن اراد ان ياكل فبدأت الناس تاكل منه و تخبر بعضها و تاتي للمسجد، و شيئا فشيئأ استأنست الناس بالمسلمين و علموا حسن نوياهم و أبلغهم المسلمون الرسالة المحمدية و اعتنق الكثير الاسلام و صاروا من جنوده لاحقا، و لكن مع مرور السنين تم تقديس هذه الحفرة، حيث أصبحت الأن مكانا يزوره الناس و يرمون فيه النقود و يتمنون بعض الأماني من الله و يرجونه أن تتحقق، و لعل هذه الأمور تجدها في أماكن اخرى ايضا في العالم فقد شاهدتها في فرنسا و أندونيسيا بنفس الفكرة و في الكثير من الول  ومنها ليبيا بأشكال اخرى كزيارة بعض الأماكن التي يعتبرها البعض مقدسة لطلب الاماني من الله هناك، ولكن في المحصلة لازالت قصة الحفرة متداولة حتى اليوم، ولازال المسجد الجامع متماسكا في بنيانه شامخا بأعمدته الكثيرة. كان المسجد ملاصقا لعدم مباني عظيمة في أسواؤها جميلة في شكلها و حاولت دخولها كلها ما أستطعت و كنت كلما هممت بالدخول أجد الشعب الأوزبكي الطيب يبادرنا بالحديث، و كما ذكرت سابقا لعل ذلك لقلة السواح فتشاهد أحتفاء كبير باي سائح و ايضا نقطة العرب مهمة لديهم فهم يربطون كل العرب بمكة و المدينة و هي من أهم رموز المسلمين.

خلال تجوالك في خيفا تلاحظ الكثير من الباعة الذين يبعيون قباعات الرأس الكثيفة و التي تشتهر بها خيفا و بخارى، و بادرت بشراء واحدة بمبلغ 10 دولارات و قد كانت معروضة بمبلغ 30 دولار و أيضا لاحقا أبتعت من أمرأة مسنة قفازات لليدين، حيث أن الصقيع هناك شديد و خاصة في الصباح، و باجر الكثير من الرفاق لاحقا لأقتناء تلك القبعات الجميلة و التي تتنوع في أشكالها و تشترك في جودة تطريزها، حيث تصنع كلها من الشعر الطبيعي أما من الجدي أو الغزال ولكل صنف سعره، مرت اللحظات سريعا في خيفا و انتبهت الى المرشد و قد أتى من بعيد فسألته اين كان فأخبرني انه كان يصلي العصر و لم يكن يفوت صلاة في المسجد و اخبرني ان المسجد كان مملوء عن اخره كالعادة، و بالفعل فقد لاحظت في كل مدن أوزبكستان أن المساجد تمتلئ عن اخرها و حتى الساحات في الحارج و هذا في الصلاوات العادية، و هذا من توفيق الله لهم أن مكنهم من الصلاة و أحببها لهم، بل و هم يُعظمون كل شعائرها، فركعات السنة قبل و بعد الفريضة هي شئ تابث ترى الكل يؤديها و كأنها فريضة، حتى انني في اول صلاة لي هناك أرتبكت و لم اعرف مالذي يصلونه لانهم قاموا قومة رجل واحد عقب الصلاة، و أيضا هناك عادة الدعاء في جماعة غقب الصلاة، فعندما كنا في بخارى صلينا الظهر في أحد المساجد، و عندما هم أخد الاصدقاء بالوقوف للخروج نهره أحد كبار السن و كلمه بلغته بما معناه اجلس  ة قال له " الصبر " اي أصبر حتى ننتهي من الدعاء، و حتى ان كنا نتفق مع تعظيم هذه السنن او لا و لكنه شئ مفقود عندنا في دولنا العربية نوعا ما.

أكملنا جولتنا في خيفا ومما كان يستحق الذكر هو احد كبار السن الذي كان جالسا و انتصب واقفا فور رؤيتنا و قال عرب عرب؟ فقلنا نعم، فسلم علينا و بدأ بالخديث باللغة العربية و كانت كلمات بسيطة و مبعثرة و لكنه كان متشوق جدا للتحدث بها، فقد كان تارة يقرأ ما يحفظ من القران و تارة يردد مقولة من المقولات العربية المنقوشة على جدران المدينة، و تارة يحاول الحديث عن الاسلام، و كان كثير الترديد للحمد لله و الشكر لله و كأنه يقصد الاسلام فهو يحمد الله ان جعلنا مسلمين، و هذا الشوق للغة العربية لمسناه بشكل كبير في عدة مناطق، و هذا امر غريب فقد تعرضت المنطقة لإحتلال سوفيتي لمدة طويلة تصل الى 70 سنة و تم منع كل الاديان و منع اللغة العربية ايضا، و مع انهيار الاتحاد الوفيتي في تسعينات القرن الماضي تحررد اوزبكستان و مباشرة رجعت الامة للدي الاسلامي و هو امر غريب فرغم قساوة الشيوعية و لكنهم رجعوا للأصل و ما عهدوا عليه ابائهم، و مما يثير الدهشة هو ان الخمر كان شئ عادي جدا طيلة فترة الاحتلال السوفيتي و لكن بمجرد التحرر رجع الخمر حراما و لاتجد اماكن لبيعه الا في ما ندر، و ايضا المراقص نادرة جدا جدا و هي في طشقند و سمرقند و على استحياء، و كله بفضل الله اولا و بسبب فطرتهم السليمة، فالمخالط لهم يعرف ان الاوزبك في اصلهم عفيفين و مالدين الا تكملة لصفات نبيلة كانت لديهم، فكما قال الرسول عليه الصلاة و السلام " انما بعتث لاتمم مكارم الاخلاق ".


طراز البواباات في اوزبكستان مميز جدا


فريق الرحلة بقيادة رحاليستا

ودعنا اقليم خرسان و مدينة خيفا المدهشة و اتجهت رحلتنا الى مدينة بخارى مسقط رأس محمد بن اسماعيل البخاري صاحب أحد اشهر كتب المسلمين بعد القران و هو صحيح البخاري، و بخارى مدينة شهيرة قبل البخاري فموقعها المميز على طريق الحرير جعلها مميزة دائما و يضعها كل من يريد ان يسيطر على المنطقة ان يسطير عليها، و لانه مدينة جاذبة فستجد الكثير من الاسماء خرجت منها و أشهرهم هو محمد البخاري بالطبع، كانت وسيلة مواصلاتنا هي الحافلة و مررنا على العديد من القرى و المناطق و لعل البساطة هي ما يوحدهم ولعلي اقول احيانا الفقر، فالوضع الاقتصادي هناك سيئ نوعا ما و لكن لبساطة الحياة فالامر ليس مشكلة عظيمة، مرت بنا الحافلة على الكثير من الطرقات و كان الكثير منها متعب جدا و غير ممهد بشكل جيد، ولان اوزبكستان دولة كبيرة كانت المسافة بين بخارى و خيفا قرابة 500 كم و مع الطرق غير الممهدة فقد اسنغرقنا قرابة 8 ساعات للوصول لبخارى، و كان دخولنا لها مع قرابة غروب الشمس، حيث كانت البلدة هادئة و زادها غروب الشمس هيبة و وقار، جررنا حقائبنا من خلال ازقة المدينة القديمة للوصول لفندقنا الرابظ في منتصف المدينة القديمة و المتاخم للعديد من الأبنية القديمة الهامة، و كان مما فعلته اول وصلونا هو الصعود لقمة الفندق و مشاهدة غروب الشمس و سماع الاذان في تلك المنطقة، و لا اخفيكم سر كانت لحظة رهيبة جدا لا يشعر بها الا من سمع الاذان في بقاع نائية من العالم، تسمع الاذان من عدة مساجد و مع غروب الشمس تشعر بهيبة الدين الاسلامي و كيف ان الله قد غرسه هنا غرساُ وهو الذي حفظه طيلة هذه السنوات و هو محفوظ بعون الله.

نلنا قسطا من الراحة قبل مغادرة الفندق و التوجه للعشاء في بيت رجل اوزبكي من بخارى، فقد كان العشاء على الطريقة الأوزبكية، رحب بنا الرجل و عائلته ايما ترحيب و سعدنا بترحيبه و حدثنا قليلا عن منزله و حديقته الصغيرة  و من ثم بدأ في جلب صحون الطعام المعد في المنزل و الذي كان واضحا انه من الفرن الى الاطباق مباشرة، و لكي اكون صادقا فانا شخص لست مغامر في الاكل بمعنى انني لا اجرب الكثير من الاطباق عندما اسافر و لذلك لا يعجبني الاكل غير الليبي، ولكن مع كثرة الاصناف في تلك الليلة وجدت بعض الاكل اللذيد، كنا ناكل و ناكل  و نظن أن العشاء هو عزيمة من الرجل لنا، و لكنه بعدما أنهينا الاكل و قف في منتصف الغرفة و أبلغنا بالسعر الاجمالي للاكل وكم سيدفع كل شخص، عم سكون مفاجئ المكان و سارت بيننا الدهشة، كان الاتفاق بينه و بين رحاليستا و مرشدنا ان العشاء بمقابل مادي و للامانة فقد كان السعر عاديا  ولكننا اندهشنا لأننا كنا نثني عليه ايما ثناء لاننا ظننا ان كل هذه العشاء مجاني، و لكن على اي حال لم يكن السعر غاليا، وايضا كانت تجربة جميلة و غير تقليدية بدل اكل المطاعم او الفنادق، أخترنا بعدها ان نتمشى حتى الفندق لنشاهد شوارع المدينة عن قرب و ايضا لما للمشي من فوائد عقب العشاء، وصلنا للفندق و الذي كان جيد جدا مقارنة بالفندق في خيفا، فبخارى نفسها كانت أكبر و اكثر تنظيما من خيفا.

في صباح اليوم التالي انطلقنا في جولتنا الصباحية رفقة مرشدنا الاوزبكي لنشق ازقة بخارى، و أصلا لم نكد نتحرك من مكاننا حتى وجدنا انفسنا اما صرح تاريخي عظيم وهو مسجد بني في العام 1652 ميلادي أي قبل 360 سنة من الان و بناه عبدالعزيز خان تحت امرة محمد الشيباني وهو من اهل سيبيريا حيث اتى من هناك ليستقر في بخارى و يحكمها لياتي خان و ينشأ مدرستين كبيرتان و يضيف لهما المسجد، ما يميز المسجد بالمدرستين هو البنيان العظيم خيث ترتفع الاسوار و البوابات لأرتفاعات شاهقة و ايضا تجد النقوش و الزخارف العربية تحيط بك في كل مكان، وفي معظمها هي ايات من القران الكريم، و مما يثير انتابهك داخل المسجد هو ان الكثير من الايات قد محيت أو ان هناك اثار لمحوها ظاهرة، و أبلغنا الناس هناك ان السوفييت حاولوا طمس اي اثر يدل على الاسلام في بخارى بل تعدى بهم الامر ان جعلوا المسجد أسطبل للاحصنة ولا حول ولا قوة الا بالله، و لكن مع طرد السوفييت في مطلع التسعينات بدأ الناس في محاولة اظهار الايات من جديد بوسائل معينة و نجح البعض فيما مسحت ايات اخرى، و كان بالقرب من مكان تجولنا أحد أهم الأبنية في بخارى الا وهي مدرسة مير عرب و مسجد كاليان و منارة كاليان و تم إنشاء الأبنية الثلاث في ازمنة مختلفة و أحدثها هي مير عرب قبل 500 سنة من الان و المسجد قبل 800 عام، لذلك أتجهنا صوب تلك الابنية و في طريقنا مررنا بازقة ضيقة وجدنا فيها بعض الباعة يبيعون مختلف المواد من اطعمة و أقمشة حريرية و هي الطاغية هناك، حيث ستجد مئات الأنواع من الأوشحة الحريرية كيف لا و هي رابظة على طريق الحرير القديم فهي المادة الاشهر هنا.

مدرسة مير عرب و مسجد كاليان و منارة كاليان ( صورة إنترنت)

 وانا أتجول في احد الازقة متجها الى مدرسة مير عرب شدني أحد الباعة و هو يعرض بعض المقتنيات القديمة و من بينها كتاب قديم جدا باللغة العربية، لفت أنتباهي مباشرة و أتجهت نحوه مستفسرا عن الكتاب و عن سعره، لم يكن يعلم الكثير عن الكتاب اللهم الا عمره و سعره، تصفحت الكتاب بتمعن و هنا ادرك أنني مهتم بالكتاب فأخبرني بلغته العربية البسيطة أنه يمتلك العديد منها و بأسعار مختلفة، هنا أحسست أنني عثرت على كنز تاريخي، فالتاريخ له عندي مكانة خاصة، و للمخطوطات القديمة مكانة أخص، وقد نصحني أحد الاصدقاء قبل السفر بان أبحث عن الكتب القديمة في أوزبكستان فقد كانت محطة من أهم محطات العلم و الاسلام يوما ما و لعل الكثير من الكتب لازالت مختبئة هنا و هناك، المهم أنني أخبرت البائع أني أريد أن أشاهد مالديه من كتب، فأعطاني رقم هاتفه و أعطيته لصديقنا المرشد الأوزبكي و أخبرته أنني مهتم بالذهاب لاحقا لمنزل البائع لرؤية ما لديه لعلي أبتع كتاب أو أكثر منه، أتفقنا على هذا النحو و قفلت راجعا مسرعا الى المجموعة وقد كانوا قد وصلوا بالفعل امام الساحة، و هي ساحة عظيمة لجمال نقوشها و عراقة تاريخها، فما ان تقف فيها حتى تشعر بهيبة و وقار، ولعل منبع ذلك هم الطلبة الذين لازالوا يدرسون حتى اللحظة منذ 500 عام  او من المصلين الذين لازالوا يصلون في نفس المسجد منذ أكثر من 800 سنة او من المنارة التي لازالت تحافظ على شكلها منذ القدم، توجهت فورا لدخول مدرسة مير عرب، و قصة المدرسة ترجع الى شخص عربي من اليمن أسمه سعيد بن عبدالله اليمني و يكنى بالامير العربي، ترك عائلته الثرية في اليمن و جاء الى بخارى لطلب العلم، فبرع فيه حتى اصبح أحد مشائخ العلم هناك و هو من قام بتشييد المدرسة و اصبحت تسمى مدرسة مير عرب او امير عرب، وحتى اليوم لازالت المدرسة تعج بالطلبة، ففي المتوسط يكون هناك قرابة الف طالب يدرسون شتى العلوم و هو اقرب للجامعة الاسمرية في زليتن بليبيا، و يتحدث كلهم اللغة العربية، و يحسن بعضهم تجويد القران بشكل جميل، و كانت فرصة لنا و للكثير من الطلبة للحديث باللغة العربية، حيث دارت بيننا نقاشات متنوعة حول الاسلام و الوضع العام، بعدما انهينا حديثنا دخلنا الى غرفة صغيرة يرقد فيها الأمير العربي و أيضا بجانبه احد طلبته الذي اصبح لاحقا حاكم البلاد، وقد كانت وصية اليمني ان يدفن في احد فصول الدراسة التي افنى عمره فيها و أيضا طلب الحاكم أن يدفن هو ايضا بجانب معلمه سعيد اليمني، رحمة الله عليهم أجمعين.

في الجهة المقابلة للمدرسة لازال مسجد كاليان يستقبل المصلين و السواح ايضا على ان يلتزم الكل بالزي المحتشم بشكل كامل، تجولنا فيه و شاهدنا عظمة الزخارف الاسلامية الجميلة داخله، و بهد الاستماع للمرشد و الاستمتاع بالمكان و رهبته انتقلنا الى مكان اخر و هو وسط بخارى و ايضا لصلاة الظهر في أحد المساجد هناك، كانت الصلاة حينها الظهر، و لكننا ما ان وصلنا حتى هُيأ لنا انها صلاة الجمعة، فقد كان المسجد مزدحما جدا بل ان الساحة الخارجية اصبحت ممتلئة مع بداية الصلاة، وهو امر مثير للدهشة فلم أرى هذا الأنكفاء على المساجد الا في اوزبكستان، فنسأل الله ان يوفقهم و يتبثهم على طاعته.

في طريق عودتنا الى الفندق للقيلولة أبلغني المرشد أن صاحب الكتب القديمة سيأتي لأصطحابي الى منزله و عرض مالديه من كتب لعله يبيع لي أحدها، أنتظرته قرب احد العلامات الدالة بالقرب من الفندق و وصل وقد كان لا يعرف من العربية و الأنجليزية الا كلمات بسيطة جدا و هو امر أقلقني فكيف سأتحدث معه بأريحية عن الكتب و نحن لا نتحدث بنفس اللسان، و لكني توكلت و ذهبت معه، و عند انطلاقنا بقليل جاءه هاتف من مرشدنا يطلب منه العودة، و عندما عدنا وجدت ان رحاليستا رفقة صديقنا أدم يريدان الذهاب ايضا و أستكشاف مالديه من مقتنيات لعلهما يبتاعان شيئا او على الاقل يقوم رحاليستا بتصوير بعض اللقطات لفيلم الرحلة ككل، و أخدناهم و أنطلقنا الى منزل الرجل و كان منزلٌ عادي يحرسه كلب أبيض يشبه كلابنا، و كان البيت ذا أثاث كقيف و لكنه قديم، أدخلنا لحجرة الضيوف و تركنا ليجلب لنا بعض الكتب، تأملت الغرفة و كان واضحا من شكلها ان صاحب البيت مهتم بالأنتيكا او الامور القديمة ففيها الكثير من التحف و الأمور القديمة، وبينما نحن نتامل الغرفة دخل علينا الرجل بصندوق متوسط الحجم يحوي عدة كتب من بينها بعض نسخ القران الكريم، و كلها كتابة يدوية، تفحصتها و ظللت أقرا بعض الصفحات، و نظرا لان الرجل قليل الحديث بالانجليزية و العربية فقط حصل سوء فهم عند حديثنا الاول عن الاسعار في السوق، فعند حديثنا عن الاسعار من جديد و بالاستعانة بمترجم الجوجل أتضح لنا ان الاسعار ليست كما فهمت بادئ الامر، و مع ذلك ظللنا نتفحص الكتب و نقرأها ويخبرنا هو فقط عن السعر و تاريه الكتاب،  وكان بعضها فارسي و الأخر تركي و غالبها عربية كتبت في بخارى و مانحوها عندما كانت كل تلك المناطق تتحدث العربية للتفقه في أمور الدين و لتبيعتها للحكم في بلاد العرب أنذاك.


صديقي عاصم الطشاني يقرأ أحد الكتب القديمة التي وجدناها هناك

كان أحد المصاحف أنيقا جدا و جميلا بدرجة كبيرة، حيث كان تم خطه ببراعة و توزيع الوان الخط زادته جمالا و هو مصحف كامل لا نقص فيه، و أستئذنني محمد السيليني في شرائه إن لم تكن لي به حاجة فأذنت له به، ولكن المفاجاءة أن سعره كان ستة الاف دولار نظرا لشكله و هيئته، و لم يكن هناك باب للنقاش بسبب سعره الغالي، و كنت قد أعجبت ببعض الكتب و لكننا لم نصل مع البائع لسعر مرضي للطرفين فأبلغناه أننا ربما نرجع لاحقا في الليل إن كان هناك ليونة في الاسعار.

مصحف قديم جدا و مخطوط بعناية فائقة و باليد قبل اكثر من 300 سنة

عدنا لقلب المدينة حيث نقطن و لنشاهد العرض الفني الراقص الذي تشرف عليه أحد الفرق الشعبية ببخارى، قُبيل دخولنا للمبنى شاهدنا وجود بعض العرسان بالخارج، و كان هذا الأمر ملاحظ بشدة حيث يأتي العروسان الى ساحة المدينة لإلتقاط الصور التذكارية مع بعض في لباس الفرح و كانت هناك الكثير من النسوة كبار السن مرافقين للعروسان، و الملاحظ أن كل النسوة بلا تمييز يحملن سن ذهب في أفواههن، و هو امر بدا لي رائج بقوة، و ربما يرمز لمقدار الثراء أو مانحوه، فالبعض لديهن عدة اسنان من الذهب و الاخريات يكتفين بواحدة أو إثنين، و لم يكن يتحدثن العربية او الانجليزية و لكن مع ذلك تبادلنا معهن اطراف الحديث بواسطة مرشدنا المحلي، و مع اقتراب العروس و العريس أخدت النسوة في التصفيق و التهليل فرحاً بهم، و لمن دري أهن مع الفتاة ام الشاب ام هن خليط بين الإثنين، و كان لنا ايضا فصل في الترحيب بالعروسان، حيث انشدنا لهم أنشودة قصيرة بينما هم يمرون امامنا، وما كان من الفتاة الا ان توقفت و انحنت امامنا قليلا ووضعت بدها على صدرها عدة مرات تعبيرا عن شكرها و تقديرها لنا.


نساء اوزبكيات و خلفهن تمثال جحا حيث يعتقدون ان جحا هو شخصية من بخارى

دخلنا بعدها لمبنى تاريخي قديم به باحة كبيرة و هي مكان مخصص لعروض الفنية، حيث قدمت لنا أحد الفرق الشعبية عرضا راقصاً رفقة انغام اوزبكية محلية وكانت أمسية لطيفة و هادئة رفقة انغام تلك الفرق المميزة، ومن بعد صلاة المغرب كان المقصد أخد المطاعم الشعبية بالمنطقة لا لاكل عشائنا بل لتحضيره و من ثم طهيه بانفسنا في تجربة مميزة نظمها رحاليستا للمجموعة، تم تقسيم المجموعة بين عدة مراحل فمنهم الذي يقشر الخضار ومنهم من يقطعه و منهم من يطهو مع الطاهي، و تفنن بعض الشباب في الطهي و ماهي الا ساعة ة نصف حتى امتلئت الطاولة بما لذ و طاب من الأكل الاوزبكي رفقة الفواكه و المشروبات، و بينما انا اتناول طعامي جاءني المرشد ليبلغني ان هناك تاجر كتب قديمة اخر مستعد لجلب بضاعته المحدودة لعلي أقتني بعضها، و اخبرني انهم قليلون و هو يقدم هذا العرض فقط لي، فوافقت و طلبت منه القدوم لعلي أقتني كتاب او إثنين في حال كانت الاسعار معقولة، وماهي الا برهة من الوقت حتى قدم علينا رجل كبير يحمل صندوق به كتب متنوعة منها العربي و أغلبها فارسي أو تركي اللغة، قلبت بعضها وسألت عن السعر و تاريه الكتب، و لكن ما لم يحفزني للشراء هو أن معظم تلك الكتب لم يوجد بها دليل على سنة أو فترة الكتابة، ولذا اي تاريخ يقال هو مشكوك بصحته، و الظاهر في الكتب انها عتيقة فعلا ولكن يهمني جدا ان يكون هناك شئ مكتوب أو على الاقل ان تكون الاسعار معقولة مقارنة بكتب لا يوجد بها تاريخ الكتابة، و لم اخد الكثير من وقته، حيث شكرته على جلب بضاعته الينا، و من بعدها أبلغني مرشدنا أنه قد اتصل بشخص يعتبر أحد اهم بائعي الكتب القديمة في بخارى و سياتي الينا في حال اردنا ليقلنا الى بيته حيث سيطلعنا على ما لديه من نفائس الكتب، سُررنا بالفكرة و ماهي الا نصف ساعة الا وقد اتى الينا رجل في سيارة شفرليت ضيقة و معه شخص جالس بالإمام، كنا نحن خمسة و لكن ماكان باليد حيلة حيث دخلنا كلنا للسيارة و التي أصبحت تشبه علبة السردين بالضبط، عبر بنا عدة شوارع و أزقة الى ان وصلنا الى بيته ذي الطابقين، صعدنا معه لحجرة بالدور الثاني حيث كانت تضم عدد إثنين من الصناديق الكبيرة و التي تمتلء بالكتب القديمة و بعض المخطوطات الفردية، كان ابنه يجيد الأنحليزية لذا تبادلنا اطراف الحديث كثيرا، و تصفحنا عدة من الكتب، و لكن مع وفرة الكتب كانت المشكلة ذاتهعا قائمة بالغالبية لا تحمل دليل على سنة الكتابة و سعرها مبالغ فيه، عندما هممنا بالمغادرة أبدى صديقنا عمار رغبة في شراء أحد المخطوطات و التي حسب قوله عمرها أكثر من 300 سنة، تجادلنا كثيرا حول السعر حتى وصلنا الى سعر ارتضاه عمار فتمت العملية.

بعض الكتب القديمة التي أقتناها طيلة حياته

وبينما نحن في بيته اخبرت رحاليستا انني ارغب في زيارة البائع الاول الذي كنا عنده  وأنني ساعود له بعد خروجنا من هنا ورغم ان التوقيت كان قريب من منتصف الليل الا انني لم أرد ان أفوت الفرصة، بادر الرجل بتقديم خدمة التوصيل فأخبرناه اننا سنذهب الى مكان اخر، و كنت في نفس الوقت امسك بيدي هاتفي المفتوح على تطبيق جوجل خرائط و فيه دبوس احمر على منزل البائع الاخر، و لفطنة الرجل قال لنا انتم ذاهبون الى فلان!!، أضطررت للأخفاء وقول اننا عائدون لاتفادى ان يحدث بينهم سوء فهم، ولكنه أصر بشدة غريبة ان يرافقنا الى منزل البائع و قال لو انتم ذاهبون اليه فسأذهب معكم و سأجعله يعطيكم اسعار جيدة، أصررت بالقول أننا عائدون الى الفندق و لكنه ظل يرافقنا حتى الطريق العام في مشهد جعلنا نضحك بشدة تلك الليلة لغرابة موقف الرجل و أبنه، المهم أننا ذهبنا للبائع الاول و الذي وجدته في السوق و زرته ببيته، و من غريب تلك الليلة أننا اوقفنا سيارة أجرة بشكل عشوائي و أريته الخارطة و اين نريد الذهاب، و فور رؤيته للخارطة قال لي تمام و رفع هاتفه و اتصل بالرجل صاحب الكتب مباشرة، فلم نعرف كيف عرفه و هل هي صدفة ام ان الرجل مشهور، المهم ان صاجب السيارة اوصلنا لمنزل البائع و دخلنا لنقلب الكُتب من جديد و نحاول ان نعرض عليه اتمام البيع لبعض الكتب باسعار معقولة، مضت اكثر من ساعة بين شد و جدب و كانت محصلتها شراء بعض الكتب القديمة من طرفي من بينها مصحف شريف تام بعمر أكثر من 380 سنة، و ايضا كانت هناك محاولة لشراء قران أخر جميل جدا بمبلغ مرتفع نسبيا الا ان التاجر و جيرانه لاحقا لم يملكوا اي وسيلة لإستقبال المال اونلاين، حيث كان صديقنا ينوي الدفع اونلاين. شكرناه على كرم ضيافته و صبره معنا بعد منتصف الليل و عرض علينا ان يوصلنا الى الفندق لاننا لن نجد أي سيارة تُقلنا الان، فقبلنا بعرضه و نحن مسرورون أن هذه الليلة الغنية بالاحداث لم تمضي و نحن خاليين الوفاض.

في صباح اليوم التالي كنا نودع بخارى و نحن نشد الرحال صوب سمرقند، تلك الجميلة الفاتنة الرابضة على منتصف طريق الحرير و كانها قلب الطريق وأهم محطة فيه، فهي المدينة التي تهافت الكثير على احتلالها و جعلها تابعة له لموقعها الجغرافي المميز، و لكن قبل سمرقند كانت لنا محطة جميلة و هادئة و هي التخييم ليلة على ضفاف بحيرة أدريا التي تقع في منتصف الصحراء و هي بحيرة عظيمة صناعية من صنع البشر و هي ضمن منظومة مائية صناعية مميزة في أرجاء البلاد، أدهشنا حجم البحيرة و كمية الطيور التي تعيش حولها، و كان مخططنا اننا سنبيت الليلة في منطقة تتاخم البحيرة و هي موطن لقبائل أوزبكية قديمة، حيث كانت هناك خيام نُصبت على الطريقى التقليدية و هي تختلف بالكامل عن شكل خيامنا في ليبيا، كانت الخيام في مكان يحاط بكتبان رملية عالية تقي المكان من الرياح القوية، و مع غروب الشمس و الهدوء المخيم في المكان أصبح الموقع مهيب جدا مه أذان المغرب و الذي رفعه احد الأصدقاء هناك، و كان لزاما قبيل اختفاء الضوء أو نجمع الحطب لنار الليلة، حيث لا تكتمل مثل هذه الجلسات إلا بجلسات النار و احاديثها الشيقة. أكتمل عشاء الليلة و كان اوزبكيا خالصا و دائما ما يكون اللحم هو الوجبة الرئيسية، و من ثم التف الأصدقاء حول نار المخيم و دارت الكثير من القصص، حيث تعتبر جلسات النار في الأماكن النائية أحدى أفضل المراحل في اي رحلة خلوية لعدم وجود أي مشتت خارجي أثناء الحديث كالهواتف في عصرنا الحالي مثلا، و دارت الكثير من القصص الشيقة المتنوعة بين المجموعة و بعضها يحتاج أن نفرد لها مكانا خاصا لسردها هنا و لكن لخصوصيتها فقد قيلت وماتت هناك كما ماتت النار في اخر الجلسة.



المخيم ليلا

رغم برودة الجو إلا ان الخيام التقليدية كانت دافئة نسبيا من الداخل، و لكن مع نسمات الصباح الاولى كان لزاما أن نجاهد النفس للنهوض و الغسل و الصلاة و من ثم الإنطلاق إلى سمرقند، و قبل الإنطلاق طلب منا أحد الاوزبك ان نقوم بتجربة الركوب على الجمال الأوزبكية ذات السنامين كثيفة الشعر والتي كان مظهرها الخارجي يختلف بعض الشئ عن النوق التي نعهدها في ليبيا و البلاد المجاورة لنا، شددنا الرحال من بعدها إلى سمرقند في رحلة برية بالحافلة في طريق كان بعضها غير ممهد و متعب بعض الشئ، و بعد مسير عدة ساعات وصلنا الى سمرقند و دُهشنا و نحن نمر امام ميدان رجيستان، ذاك الميدان العظيم في معماره و الجميل في نقشه، و كلمة رجستان تعني المكان الرملي او الطيني، و اعتقد انه مستوحى من شكله القديم حيث كان مكانا طينيا و رمليا و يعتبر ميدان عاما تجتمع فيه العامة هناك لقضاء الحوائج أو لحضور القصاص احيانا من قبل السلطة الحاكمة.

ريجستان هو قلب المدينة القديمة وأحد معالم سمرقند في الدولة التيمورية وحالياً في أوزبكستان.


لعل أهم و اكثر شئ يدهشك في الميدان هي الثلاث مباني التي تشكل أضلع الميدان من ثلاث جوانب، و هي ثلاث مدارس إسلامية يميزها بواباتها الضخمة جدا و الأعمدة العالية عن يمين و يسار البوابة، و المدارس هي مدرسة اولوغ بيك وهو حفيد تيمور لنك اعظم شخصية في التاريخ الأوزبكي بنيت عام 1422 ميلادي و مدرسة شيردار و بنيت بعدها عام 1631 ميلادي و مدرسة  تيلا قاري و بنيت عام 1661 ميلادي، و كلها مدارس اسلامية مليئة بالفصول من الداخل، و حتى تدخل لتلك المدارس يجب ان تدفع تعريفة و من ثم تدخل و ستجد الكثير من المرشدين في حال كنت تريدين التعرف على معلومات اكثر حول المكان، ماكان ملفتا كالعادة هو لطافة الاوزبك الكبيرة جدا، و طلبهم المتكرر لإلتقاط الصور معانا باستمرار و طلب الحديث اكثر معنا رغم أن لا توجد لغة مشتركة معهم و لكن كان بعضهم يتقن الإنجليزية بعض الشئ، و مما وجدت في احدى ردهات مدرسة اولوغ بيك هو خطاط اوزبكي كبير في العمر يتحدث العربية بشكل ممتاز و يمتهن كتابة الخط العربي للسياح، و لديه موهبة كبيرة جدا في الخط العربي، و قد زار مصر في وقت ما و هو يتهلف لزيارة  مكة لأداء الحج متى ما تيسرت له الظروف المادية، قبل ان نخرج من عنده امسك بيدي و قال لي فجأة ان الإسلام في غربة بعض الشئ، و علينا ان نتمسك بوحدة المسلمين و نؤدي واجبنا نحو الله كي يعود الإسلام منيعا، شكرته على كلماته الصادقة و دعوت له بالخير و ان تتيسر له أسباب زيارة بيت الله الحرام  فلعل دعوتي تصيب ساعة إستجابة.

الخطاط الأوزبكي

كان ثاني يوم من إقامتنا يوافق الجمعة و كان لزاما ان نغتسل و نذهب باكرا للجمعة حيث يثوم الناس هنا بالذهاب مبكرا جدا و تمتلئ المساجد قبل الخطبة فلا تجد لنفسك مكانا، اتجهت لاحد المساجد بالقرب من ميدان رجستان و رايت كيف يتجه الكل صوب باب المسجد قبل فترة من موعد الخطبة، و مع دخولي كان الكثير يراقبني بصمت فلباسي الليبي التقليدي يخبرهم انني شخص غريب و لعلهم خمنوا انني من بلاد العرب او عربستان كما يقولون، ما إن جلست حتى امتلئ المسجد و فنائه بالمصلين، و بعد لحظات دخل شيخ كبير في العمر مهيب الشكل ملتحي الوجه يمسك في يده دُرة كبيرة و هي عصا كبيرة و تجد الكثير من الخطباء يستعملونها اتباعا لسير الصحابة ولعل أشهرهم عمر بن الخطاب و درته الشهيرة التي كانت دائما معه، كان درس الجمعة طويلا بعض الشئ و باللغة الاوزبكية و للأمانة لم أفهم منه شئ، إلا بعض الكلمات عن شهر رمضان فقد كان رمضان على الابواب و يفصلنا عنه بضعة أيام فقط، انتهى الدرس بدعاء من الشيخ و بدات الخطبة باللغة العربية بالثناء على الله و رسوله و كانت خطبة قصيرة، ولعل مان يريد ان يقوله قاله في درس الجمعة، و بعد إنتهاء الخطبة اتجهت رفقة صديق لي للسلام على الخطيب و ما ان رانا حتى قال لنا عرب فقلنا نعم، فطلب منا ان ننتظره حتى ينتهي من التسليم على الناس التي اصطفت للسلام عليه كما هي العادة في بعض المساجد، جاءنا الخطيب و الذي كان يتقن العربية بالطبع و حدثنا عن سفراته المتكررة الى الازهر الشريف في مصر و كيف تعلم اللغة العربية هناك، و عن سعادته لحديثه باللغة العربية معنا فهو لم يصادف عرباً منذ مدة، و كان مما سالته عن رمضان و ماذا كان قد قال في الدرس، فأخبرني انه تحدث عن الشهر و فضائله و كيفيه صومه بالشكل الصحيح، و أن الاوقاف قد حددت دخول الشهر بيوم معين بناء على الدراسات الفلكية، فلا مجال للجدال و اللغط ولا مجال لسمنو هناك أيضا!

صلاة الجمعة بأحد المساجد بسمرقند



صورة تذكارية رفقة شيخ المسجد

قضينا اغلب اليوم في التنزه داخل سمرقند و أستكشاف المدينة و تاريخها المميز، و كان مما يدعو للإستغراب هو كمية التجاهل لفيروس كورونا هناك، فلا تجد الكمامة منتشرة كثيرة هناك بل ان المساجد تجدها ممتلئة ولا أثر للتباعد، و هذا في أبريل 2021 اخي القارئ، حيث كانت بعض الدول لازالت في وضعية الإغلاق التام، و لكن للدخول او الخرود من الدولة يستلزم وجود اختبار سلبي النتيحة لفايروس كورونا، وتم التنسيق مع معمل هناك لاخد عينات من الكل، و كان من طريف ما حدث ان أحد الأصدقاء جاءت نتيجته موجبة و دون سابق إنذار جاءت حافلة مع قوة امن للفندق و قاموا بنقل صديقنا و كأنه متهم بجريمة، حتى ان مكان العزل كان أشبه بالمعتقل حسب وصف صديقنا، طمأننا مرافقنا الاوزبكي انه سيجد حل لصديقنا و طلب من الباقي ان يسافروا الى طشقند كما هو مقرر للمغادرة، و لكني فضلت البقاء مع الصديق علي الشريف لإنتظار صديقنا و ما سيحدث معه، و لكن مع ثاني يوم تم إجراء تحليل اخر له  و جاءت النتيجة سالبة، و لا ادري هل كانت سالبة فعلا ام ان صديقنا الاوزبكي تدخل و جعلها سالبة، من يعلم كل شئ جائز!

قضينا نصف اليوم في التنزه و التبضع من هناك و من ثم قمنا ثلاثتنا بستئجار سياة للعودة الى طشقند، و كانت سيارة نوع داو سيلو و هي من النوع المعروف جدا لجيلي و كلنها على وشك الإندثار في ليبيا و لكنها في اوبكستان لازالت تسير بشكل طبيعي بل ان منها الكثير من النسخ الاخرى و لا يبدو انها من السيارات القديمة هنا، سرنا لمسافة 450 كم لمدة تترواح حوالي خمس ساعات حتى وصلنا الى طشقند ليلا و ذهبنا الى شقة قام بستأجارها الأصدقاء قبلنا و كانت ليلة الختام من اروع ما يكون حيث التم كل الفريق مجددا و كان العشاء ليبياً خالصا مكرونة مبكبكة بإشراف الشيف عمار ارحومة، و كانت الليلة تستحق ان تكون ختامية لمغامرة اوزبكستان.


العشاء الأخير للرفاق في أوزبكستان

تفرق الركب فجر ثاني يوم حيث صعد البعض مباشرة الى طرابلس و البعض قضى ليلته في أسطنبول ليرتاح و كنت انا من هؤلاء، و فضل اخرون ان يقضوا بضعة ايام في ازقة أسطنبول و يستمتعوا بليالي الشهر الفضيل هناك، أما انا فقد عدت حاملا معي ذكريات معنوية و مادية، فقد استلطفت هذا الشعب كثيرا و أيضا سررت بزيارة المدن التاريخية و التي كنا نسمع عنها فقط في التلفاز، و أيضا الكتب التاريخية التي جلبتها ستكون ذكرى كبيرة مرافقة لي ما حييت، فعندما اشتريتها كنت انوي بيع احدها ليغطي ثمن الباقي، و لكن بعد مرور عام على الرحلة فضلت ان أبقيها كلها و اتركها ذكرى لمن بعدي، ذكرى عن رحلة مميزة في أرض مميزة لشعب مميز و تاريخ مميز.

 

العبد لله " صلاح الدين البُطي " 

 

نسأل الله ان يغفر لنا و يرحمنا و يذكرنا في عليين يوم لا ينفع مال و لا بنون.

 

صلاح الدين صالحين البُطي - شعبان 1443 هجري